• ×
الثلاثاء 14 مايو 2024

رحم الله جمال عبد الناصر

رحم الله جمال عبد الناصر
بواسطة admin 07-27-2011 04:36 صباحاً 843 زيارات
 صادف يوم أمس السبت، الثالث والعشرون من تموز الجاري، الذكرى التاسعة والخمسين لقيام الثورة المصرية سنة 1952م، التي فجرها (الضباط الأحرار) بقيادة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، رحمه الله.
ونقول: رحمه الله؛ لأن طلب الرحمة بهذه الصيغة هو دعاء يقال، في العادة، عندما يراجع المرء مواقفه من شخص آخر ويكتشف أنه كان قد تسرع في الحكم عليه بما ليس فيه، ثم يكتشف أنه كان مخطئاً في اتخاذ قرار يتبين أنه لم يكن صحيحاً ولم يكن صائباً.
أشهر النماذج في التاريخ العربي الإسلامي، هي ما نعرفه من موقف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من القائد التاريخي، خالد بن الوليد، رضي الله عنه، عندما أمر بتعيين أبي عبيدة، عامر بن الجراح، رضي الله عنه، (القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة) في جبهة بلاد الشام، بينما كان المسلمون يستعدون لخوض معركة مصيرية تقرر نتيجتها مستقبل الوجود الإسلامي في بلاد الشام ومستقبل المواجهة مع الروم.
اتخذ عمر القرار كي لا يفتن المسلمون بخالد، ويعتبرون أن النصر يأتي على يدي خالد فقط، وليس بفعل شجاعة فرسان المسلمين، وحتى فوارسهم من النساء المسلمات المشاركات في تلك الحروب مثل خولة بنت الأزور وغيرها من نساء المسلمين اللواتي كن يساعدن في إعداد (الدعم اللوجستي) من تحضير الطعام ومداواة الجرحى والقيام بالمهام التي تقوم بها النساء في مثل هذه المواقف.
طوى أبو عبيدة (كتاب التكليف السامي) وأخفاه، وخاض المسلمون معركة النصر بقياد خالد الذي أعلن قائلاً بعد (معركة الحسم)، وبعد أن تسلم (كتاب الإقالة): (أنا لا أحارب من أجل عمر). وانتصر المسلمون ودحروا الروم وتم (تحرير) البلاد من الاحتلال الرومي، كما يرى الشاعر الفلسطيني، برهان الدين العبوشي، حيث يعتبر أن مهمة الجيوش الإسلامية في العراق وفي بلاد الشام، كانت مهمة (التحرير)، وليست مهمة (فتح) لتلك البلاد العربية المغتصبة.
عندما جاءت البشائر لعمر في المدينة بانتصار جيوش (التحرير) في معركة اليرموك، وعلم بموقف خالد، قال عمر كلمته الخالدة في القائد الخالد؛ خالد بن الوليد: (رحم الله أبا بكر؛ فقد كان أعلم مني بالرجال). وهو اعتراف صريح و (إقرار عدلي) من الخليفة العادل؛ عمر بن الخطاب، بأن أبا بكر كان على صواب عندما عين خالداً لقيادة الجيوش التي كانت تحارب في بلاد الشام استعداداً لخوض معركة اليرموك، وأنه هو لم يكن موفقاً في إصدار (مرسوم التعيين) الذي اتخذه بإسناد القيادة إلى أبي عبيدة، بالرغم من مكانة أبي عبيدة في تاريخ الدعوة، ومقدرته القيادية (الحكيمة).
لقد كان أبو بكر صاحب عزم وحزم وحنكة إدارية وممن يطلق عليهم اليوم زوراً: (القيادة الحكيمة)، وكان صاحب رؤية سليمة، وتقدير صائب للمواقف واتخاذ القرار الشجاع، كما هو معروف من موقفه من أهل الردة، وخصوصاً موقفه الحازم من موضوع الزكاة.
كان عبد الناصر زعيماً حكيماً
وأول مظاهر حكمته بعد توليه الحكم في مصر، هو ما قام به من برامج تطويرية وإصلاح إداري وتصليح زراعي، ونهضة صناعية، وما سعى إليه من بناء قوة عسكرية حقيقية، وبناء اقتصاد سليم، بالرغم من الإرث الضخم المتخم بالفساد الذي آل إليه من العهد الملكي البائد.
ألغى الإقطاع وأمم قناة السويس وكسر احتكار السلاح وصنع لمصر وللعرب مكانة مرموقة بين الأمم، وقال قولته المشهورة: (إرفع رأسك يا أخي العربي)! بنى السد العالي، واستصلح مساحات شاسعة من الصحراء، وحولها إلى جنات غناء تفيض بما جادت به الأرض المباركة في مصر المحروسة، وجعل التعليم مجانيا حتى المرحلة الجامعية.
بل كان لنا نحن الفلسطينيين، نصيب من هذا الفيض الذي صنعه عبد الناصر، وكان التعليم الجامعي لطلابنا مجانا, ولم يقم بضم قطاع غزة حفاظاً على الأمانة التي أودعتها جامعة الدول العربية لدى مصر بعد النكبة، إلى أن يتم حل القضية الفلسطينية.
وكان من حكمته كذلك، أنه أعلن في الأول من كانون الثاني سنة 1956م (فك الارتباط الإداري والقانوني مع السودان)، هذا الوضع الذي أقره الاحتلال الإنجليزي في ما سمي الحكم الثنائي، لكي يتم إعلان السودان جمهورية مستقلة.
خاض معركة (الصمود والتصدي) للعدوان الثلاثي سنة 1956م، وانتصر الشعب المصري ببطولاته وتضحياته و (القيادة الحكيمة) للرجل الذي سارع في الذهاب إلى الأزهر الشريف عندما بدأ العدوان، وأعلن في الجموع الهادرة قائلاً: (حن حارب)، ولم يستسلم للإنذار الذي وجهته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل؛ بإخلاء منطقة القنال، والرضوخ لإرادة الغاصبين والاستسلام لقوات الغزو والتسليم بالأمر الذي فرضه العدوان الثلاثي الغاشم والغادر.
كان عبد الناصر يدعم الحركات الثورية العربية التي اشتعلت بفعل ما كان يبثه في الشعوب العربية من روح المقاومة من خلال خطبه النارية، ومن خلال الدعم غير المحدود من سلاح ومال وكسب التأييد من الدول الصديقة للقضايا العربية العادلة.
ساند الثورة اليمنية بقيادة عبد الله السلال ضد أسرة حميد الدين سنة 1962م، بالرغم مما واجهه من صعوبات ودسائس ومؤامرات وتضحيات.
ساند الثورة في جنوب اليمن حتى انتصرت وتم رحيل الإنجليز من الجنوب وتحريره من الاحتلال الإنجليزي سنة 1968م. وحدث الانقلاب في العراق سنة 1958م بوحي من توجهات المد الثوري الذي أحدثه جمال عبد الناصر. وساند الثورة الجزائرية التي اشتعلت سنة 1954م، إلى أن انتصرت عام 1962م، وكان لعبد الناصر تأثير كبير في دعمها بكل الوسائل. واستقلت كل دول المغرب العربي بدعم من جمال عبد الناصر بما لا يدع مجالاً للإنكار إلا من كل حاقد أو لئيم أو معاد للحقيقة.
عندما اشتدت المؤامرات على سوريا بعد معركة السويس، راح السوريون الأحرار يفاوضون عبد الناصر في موضوع الوحدة بين القطرين الشقيقين. ومع انه كان متردداً، كما تقول المصادر التاريخية، بسبب التفاوت في الأوضاع الداخلية بين القطرين الشقيقين، وعدم نضج المرحلة لكي تتم الوحدة، إلا أنه وافق وأقيمت الوحدة، (حلم الأجيال العربية) سنة 1958م وحمل الرئيس السوري، المرحوم شكري القُوَّتلي، لقب المواطن الأول بعد أن (تنحى) لكي يتم بناء (الجمهورية العربية المتحدة).
لكن المؤامرات والدسائس و (المندسين) انقلبوا على الوحدة ووأدوا الحلم العربي وحدث الانفصال سنة 1961م. وهنا تتجلى حكمة جمال عبد الناصر وتبدو عظمة قيادته الحكيمة فعلاً لا قولاً، وصدقاً لا تزويراً ونفاقاً.
ظن في البداية أنها مجرد مغامرة من الطامحين إلى السلطة والطامعين في الحكم، وقد تبين أن الأمر كان كذلك، فأرسل الطائرات المحملة بالجنود لإخماد (الفتنة)، وعندما أدرك أن الدماء سوف تسفك، وسوف تراق على الأرض السورية، أمر قواته بعدم المواجهة والاستسلام، ليس جبناً وخوفاً من المواجهة، أو تمرداً على أوامره، بل لأنه كان حكيماً أدرك أن الوحدة تكون طوعاً لا كرهاً، وأن الوحدة تتم عندما تنضج الظروف المواتية لها.
اليوم، وفي خضم الأحداث الدموية التي تجري في أمنا الحبيبة؛ سوريا الغالية، نترحم على جمال عبد الناصر ونقول: رحم الله جمال عبد الناصر، فقد كان زعيماً حكيماً؛ بالرغم من كل محاولات التشكيك في قيادته الحكيمة، ومحولات النيل من قامته المديدة في التاريخ العربي المعاصر.
رحم الله جمال عبد الناصر، (المعلم) الذي علّم الأجيال العربية كيف ترفض الذل وكيف تطلب العزة والكرامة، وكيف لا تخاف بطش المتجبرين والذين يسخرون مقدرات الشعوب لخدمة الغاصبين للحرية والمغتصبين للسلطة، والذين ينفذون مخططات ما كان يسميه (الرجعية العربية) والإمبريالية العالمية.
كنت طالباً صغيراً، عندما كنا نرجم (السراي) احتجاجاً على محاولات ضم الأردن إلى حلف بغداد، ولا يزال متألقاً في ذاكرتي اسم الطالبة رجاء أبو عماشة التي استشهدت في تلك المرحلة وهي ترفع العلم الفلسطيني وتضعه على السارية، قبل أكثر من خمسة وخمسين عاماً.
كان عبد الناصر في حينه ملهماً لكل الحركات التحررية العربية والإفريقية. وكان منهاجه هو المنهاج الصحيح، ولا أدل على ما نقول من أن شعارات الثورات العربية اليوم تنادي كلها ب (دولة مدنية)، بما فيهم الإخوان المسلمون في مصر الذين شكلوا أخيراً حزباً سياسيا مدنياً أطلقوا عليه اسم: (حزب الحرية والعدالة)، حيث فتح ذراعيه لكل التوجهات، حتى الأقباط الذين انضم بعضهم إلى الحزب (المدني) الجديد، ونعتبرها (طلقة ذكية) من الإخوان.
في أثناء المظاهرات التي كانت تحدث في الميادين العامة في كل أرجاء القطر المصري، رفع أحد المتظاهرين لافتة صغيرة تحمل شعار: (الإسلام هو الحل)، فما كان من بعض الحضور إلا أن اعترضوا عليه، لأنها ثورة شعبية لكل فئات الشعب بكل أطيافه وكل توجهاته العرقية والدينية والسياسية، وهو ما تبنته جماعة الإخوان المسلمين نفسها بعد ذلك، كما قلنا.
لقد شاهد العالم صور جمال عبد الناصر ترفع في ميادين التحرير في تونس ومصر وفي بنغازي خلال الاحتجاجات الشعبية، وفي مظاهرات التأييد في لبنان؛ مما يدل دلالة قاطعة أن الرجال المخلصين خالدون في ضمائر الشعوب التي تعرف فضل قادتها العظام، ولا تتأثر بفحيح المشككين ولا تهتم بما يردده المرجفون المأجورون.
في زحمة الأحداث التي تعصف بالوطن العربي وتطور الأمور من الخطير إلى الأخطر، نتمنى على الله أن تستقر الأوضاع لما فيه خير هذه الأمة، وينال الشعب العربي ما دفع ويدفع في سبيله من دماء أبنائه البررة ثمناً للحرية والكرامة والديموقراطية الحقيقية الصادقة.
كنت في السادس من تموز من العام 1994م، قد زرت أرض الكنانة المحروسة، ووقفت على ضريح القائد الخالد، وخاطبته بقصيدة بلغت 33 بيتاً بدأتها بهذه الأبيات:
وَقَفْتُ عَلى ضريحِكَ في خُشوعِ ***** فَفاضَتْ مِنْ مآقيها دُموعي
أتَيْتُكَ يا جمالُ وبي اشْتِياقٌ ***** يُزَلْزِلُ خافقي بينَ الضلوعِ
لَثَمْتُ جِدارَ قبْرِكَ حينَ جاشَتْ ***** لَواعِجُ قَلْبِيَ العاني الصَّديعِ
أتَيْتُكَ مِنْ رِحابِ القُدْس أشكو ***** وَما لِيَ مِنْ مُجيبٍ أو سَميعِ
وختمتها بهذه الأبيات:
لَئِن كَانَ الثرى يَطْويك عَنّا ***** لَسَوْفَ تَظَلُّ شَمْسُكَ في سُطوعِ
يَظَلُّ بِناءُ مَجْدِكَ في شُموخٍ ***** وَيَبْقَى الذِّكْرُ وَقَّادَ الشُّموعِ
وَتَبْقَى أَيُّها العِمْلاق حَيَّاً ***** وَسَوْفَ تَظَلُّ نِبْراسَ الجُموعِ!!

بقلم:ياسين السعدي